رقمنة العربية: هل نتأخر عن لغتنا في سباق المستقبل؟
في عصر تتسارع فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي والرقمنة، تصبح الحاجة إلى رقمنة اللغة العربية ضرورة استراتيجية لا خيارًا لغويًا. يستعرض هذا المقال التحديات والفرص المرتبطة بتطوير المتون اللغوية، وصناعة المعاجم الرقمية، وتعليم العربية بمنهجيات حديثة تعيد لها دورها الحضاري والمعرفي.

مع تسارع التطور التكنولوجي عالميًا، حظيت الدراسات اللغوية بنصيب وافر من التحديث والتطوير، وبرزت توجهات جديدة في طبيعة التفاعل بين الإنسان واللغة، سواء على مستوى الاستخدام اليومي، أو البحوث اللسانية، أو التطبيقات التقنية المتقدمة.
ومن بين أهم المسارات اللغوية التي تستدعي اهتمامًا خاصًا في العالم العربي، يبرز ميدان السياسات والتخطيط اللغوي. ففي ظل ما يشهده العالم من هيمنة لغوية وثقافية غربية، عبر برامج مكثفة لتعليم ونشر اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومع تنامي حضور اللغة الصينية عالميًا، تصبح الحاجة ملحّة لإعادة بناء علاقة احترام وثقة بين المتحدثين باللغة العربية ولغتهم الأم.
لكن ذلك لا يتحقق عبر الخُطب الحماسية والشعارات البلاغية التي تتغنّى بـ"لغة الضاد"، بل يستلزم عملاً منهجيًا جادًا ومتواصلًا يعيد للغة العربية مكانتها في المجالات العلمية والتقنية الحديثة، ويُكسبها القدرة على مواكبة قفزات المعرفة والرقمنة التي تغمر العالم اليوم.
ومن الروافد العريقة التي لعبت دورًا محوريًا في إثراء اللغة، تبرز الترجمة؛ فهي ليست مجرد نقل نصوص من لغة إلى أخرى، بل فعلٌ حضاري يتداخل فيه الإثراء المعرفي، والتجديد الثقافي، والإحياء اللغوي. وفي عصر الرقمنة، تحوّلت الترجمة إلى ميدان خصب للبحث، لا سيما مع بروز الترجمة الآلية، ونظم الذكاء الاصطناعي، التي فتحت آفاقًا جديدة أمام اللغويين والمترجمين.
وسط هذا المشهد، نجد أنفسنا أمام فرصة ذهبية، ومسؤولية ثقيلة في آنٍ معًا، لتناول اللغة العربية بعيون منهجية حديثة، تأخذ في الحسبان سياقاتها الثقافية، وتفاعلها مع اللغات الأخرى، واستخداماتها في الفضاء التكنولوجي.
إننا بحاجة إلى مشروع شامل لـ"رقمنة اللغة العربية"، لا من باب التباهي بالمصطلح، بل باعتباره مسارًا حتميًا لبقائها حية وفاعلة في بنية العالم الجديد.
وتشمل هذه الرقمنة توجهات عديدة من أبرزها: النهوض بـلسانيات المتون (Corpus Linguistics)، وتطوير صناعة المعاجم الإلكترونية، وتحديث مناهج تعليم اللغة (للمتحدثين بها وغير المتحدثين)، وبناء قواعد بيانات للمفردات والمصطلحات الحديثة، وتعزيز جهود تعريب العلوم، بما يسهم في انتقال العالم العربي من موقع المستهلك للمعرفة إلى موقع المنتج لها.
ورغم أن لسانيات المتون أصبحت منهجية علمية معتمدة عالميًا في الدراسات اللغوية، فإنها لا تزال في طور النمو المحدود في العالم العربي. وهي تعتمد في جوهرها على بناء "متن" أو "مكنز نصي" رقمي، يتضمن مجموعات ضخمة من النصوص العامة والمتخصصة، والتي تُحلل باستخدام برمجيات لغوية دقيقة، تتيح دراسة المفردات، وأنماط الجمل، والتراكيب الصوتية والصرفية والنحوية والأسلوبية.
ومن خلال هذه المتون، يمكن إجراء دراسات وصفية وتحليلية وتاريخية، تُغني البحث في مجالات متعددة كتعليم اللغة، وتحليل الخطاب، والترجمة، واللسانيات الاجتماعية. إلا أن الواقع العربي يشهد نقصًا حادًا في مثل هذه الموارد، في الوقت الذي تتوافر فيه متون ضخمة ومنظّمة للغة الإنجليزية في مجالات متنوعة، من الصحافة إلى الطب، مما يجعل المقارنة مؤلمة.
وقد أسهمت المتون أيضًا في رقمنة علم المعاجم، فلم تعد صناعة القاموس عملًا فرديًا تقليديًا، بل أصبحت عملية مؤتمتة تعتمد على معطيات حقيقية من لغة الاستخدام.
كما تتيح هذه المتون إمكانات ثمينة لإجراء دراسات مقارنة بين العربية واللغات الأخرى، مما يعزز الترجمة البشرية، ويحسّن من جودة الترجمة الآلية، ويفتح آفاقًا واسعة لتطوير المناهج التعليمية، لا سيما للناطقين بغير العربية.
ولعل مضاهاة العربية باللغات الأخرى بشكل علمي ممنهج، هي أحد أهم مسارات النهوض بها، وإعادة الحيوية إلى بنيتها، بحيث تواكب إيقاع القرن الحادي والعشرين دون أن تفقد جذورها.
ألم يحن الوقت لننتقل من الحديث عن حب اللغة، إلى بناء مستقبلها الرقمي؟